مقالة استقصائية بالرفع
السؤال :اثبت بطلان الأطروحة الآتية <<الألفاظ حصون المعاني>>
طرح المشكلة: الإنسان كائن اجتماعي بطبعة يتعامل مع غيره ووسيلته في ذلك اللغة,ولما كانت اللغة هي الميزة الجلية التي يمتاز بها الإنسان عن سائر الكائنات الأخرى فمعنى ذلك أنه هو الكائن الوحيد القادر على التواصل و التبليغ بين أفراد جنسه،حيث يستطيع أن يفهم و يفهم الآخرين، و يعبر عن أفكاره و انشغالاته، و لما كانت نفسه مزدحمة بما لا حصر له من المشاعر، و الواقع مثقل بالأشياء وجب تمييز هاته عن تلك و أضحت اللغة و الحالة هذه الوسيلة المثلى لتحقيق هذه الغاية. ولذا أصبح من الشائع لدى بعض الفلاسفة أن هذه الآلية(اللغة)قاصرة على استيعاب هذا الزخم الهائل من الأفكار و الأشياء الألفاظ حصون المعاني لكن هناك من يعارض ذلك وهم أصحاب الاتجاه الو احدي اذ يرون ان الألفاظ حصون المعاني.فإذا سلمنا بفساد منطق هذه الأطروحة وتقر لدينا إبطالها فكيف نحقق ذلك في ظل وجود مؤيدين لها ؟ وماهي الأدلة والبراهين التي يمكن الاستناد إليها في ذلك؟
محاولة حل المشكلة:
1/ إن المتتبع و الدارس لموضوع اللغة، يجد نفسه أمام موقف يرى بأن علاقة اللغة بالفكر هي علاقة تكاملية لا انفصام فيها. حيث أنه لا يمكن أن يوجد أحدهما في غياب الأخر، و قد دافع عن هذا الرأي نخبة من الفلاسفة و علماء اللغة من بينهم زكي نجيب محمود، و ميرلوبونتي، و هيجل، و غيرهم كثير.
و يستأنس أنصار هذا الموقف بمجموعة من الحجج الدامغة التي أقرها كل من العلم و الواقع و من بينها : أنه لا توجد كلمات من دون معان، فكل كلمة أو لفظة إلا و يقابلها في الذهن معنى محدد، ضف إلى ذلك أنه بواسطة الكلمات تتمايز الأشياء و المعاني في الذهن بعضها عن بعض، فنستطيع أن نفرق بينهما و نخرجها من الغموض و عندئذ يصبح المعنى محصنا حتى لا يأخذ شكل معنى آخر و قد قيل في هذا الصدد:" إن الألفاظ حصون المعاني". كذلك نلاحظ بأن اللغة تثري الفكر فبقدر ما نملك من أفكار بقدر ما نملك من ألفاظ قال هيجل:" نحن نفكر داخل الكلمات" و قال غوسدروف :" إن التفكير ضاج بالكلمات". و قال هيجل:" إن التفكير بدون كلمات لمحاولة عديمة المعنى فالكلمة تعطي للفكر وجوده الأسمى و الأصح".
ومن الأدلة التي يقدمها العلم فقد أثبت علم نفس الطفل أن الأطفال يتعلمون التفكير في الوقت الذي يتعلمون فيه اللغة. فالطفل عند حداثة ولادته يرى العالم كله، و لكنه لا يرى شيأ و عند اكتسابه للكلمات يبدأ هذا العالم في التمايز و أخذ معناه. و حتى في التفكير الصامت عندما ينطوي المرء على نفسه متأملا إياها فإنه يتكلم، غير أن هذا الكلام هو كلام هادئ عبارة عن حوار داخلي " فنحن عندما نفكر فنحن نتكلم بصوت خافت و عندما نتحدث فإننا نفكر بصوت عال " على حد تعبير أحمد معتوق
2/ إن الأطروحة القائلة <الألفاظ حصون المعاني> تبدو صحيحة في ظاهر الأمر لكنها في الحقيقة أطروحة باطلة وذلك لوجود عدة مبررات تدفعنا إلى ذلك فمن الناحية الواقعية كثيرا مايتراجع الإنسان عن كتابة بعض الكلمات أو يتوقف عن الكلام والسبب في ذلك أن الألفاظ تخونه أي رغم وجود المعاني إلا أنه لايستطيع التعبير عنها وقد يعود السبب إلى عدم القدرة الألفاظ على احتواء المعاني العميقة والمشاعر الدافئة والعواطف الجياشة لذلك قيل إذا كانت كلماتي من ثلج فكيف تحتوي بداخلها النيران ومن الأمثلة التي توضح ذلك أن الأم عندما تسمع بخبر نجاح ولدها قد تلجأ إلى الدموع , وهذا يبرر عجز اللغة اللفظية
إن موقف أنصار هذه الأطروحة لها مناصرين وعلى رأسهم جون لوك الذي قال << اللغة سلسلة من الكلمات تعبر عن كامل الفكر>> ولكن كلامه لايستقيم أمام النقد لأن الألفاظ محصلة ومحدودة بينما المعاني مبسوطة وممدودة وكما قال أبو حيان التوحيدي << ليس في قوة اللفظ من أي لغة كان أن يملك ذلك المبسوط (المعاني ) ويحيط به >> وكذلك نرى الصوفية يلجأ ون إلى حركات ورقصات لأن الألفاظ لم تستطع إخراج جميع مشاعرهم .
3/ ان النقاش السابق يمكن وصفه بأنه نظري غلبت فيه لغة الفلاسفة وتبريراتهم ،لكن إذا ا نظرنا إلى هذا الموقف من زاوية واقعية وحاولنا إسقاطها على الممارسة اللغوية التي نقوم بها فإننا أيضا كمتفلسفين لانجد مايؤسس لسلامة منطقها، بل عل النقيض تماما يمكننا التأكيد إن الأطروحة القائلة الألفاظ حصون المعاني يمكن رفعها ( إبطالها) بأدلة شخصية وهذا ماحدث لي عندما التقيت بزميلي لم أره منذ مدة حيث تلعثم لساني ولم أستطع التعبير عن مشاعر الاشتياق نحوه , إن الألفاظ في هذه الحالة قتلت المعاني ،وإذا كان الأمر كما يدعي أنصار الاتجاه الو احدي فبماذا نفسر التمايز الحاصل بين المتمدرسين في مجال اكتساب اللغة وتوظيفها رغم التقارب في المستى الفكري والعقلي.وبشكل آخر يحق لنا ان نتساءل:اذا اعتبرنا الألفاظ حصون للمعاني فلماذا يختلف الأفراد داخل المؤسسة الواحدة سواءا أكانت أسرة او مدرسة او غيرهما... في المقدرة على إيصال الأفكار وتبليغها؟ ان هذه الدلائل المستمدة من الحياة اليومية تثبت بما لايدع مجالا للشك ان اللغة لايمكنها ان تواكب صيرورة الفكر واتصاله وستظل دوما عائقا يمنعه من التدفق والتعبير عن تجلياته .وهوماعبر الكثير من فلاسفة الاتجاه الثنائي ومن بينهم نجد برغسون الذي يرى ان الفكر و اللغة منفصلان بحجته أن اللغة من طبيعة اجتماعية وموضوعية بينما الفكر ذاتي وفردي .
حل المشكلة: وخلاصة القول أن اللغة مجموعة من الإشارات والرموز تستعمل للاتصال والتواصل والفكر خاصية ينفرد بها الإنسان وقد تبين لنا أن هناك من يربط بين الفكر واللغة مما دفعنا إلى رفض هذه الأطروحة ونقد مسلماتها والرد على حججها وبالنظر ما سبق ذكره نصل إلى
إن الأطروحة القائلة << الألفاظ حصون المعاني >>أطروحة باطلة ويجب رفضها