طرح الإشكالية
إن ميدان العلوم التجريبية هو الواقع المحسوس و
الملموس و منهجها هو المنهج التجريبي الذي يتكون من أربع خطوات يبدأ فيه
العالم من دراسة الوقائع حتى يصل في النهاية إلى قانون يحكمها . و إذا
عدنا بذاكرتنا إلى الماضي نجد أن بعض العلوم عندما حققت إستقلالها عن
الميتافيزيقا أو الفسفة خصوصا منها علوم الفيزياء على يد غاليلي و نيوتن و
الكيمياء على يد لفوازييه بدأ الطموح يراود العلماء في إدخال التجريب على
المادة الحية وذلك قصد تخليصها من الطابع الفلسفي الذي إرتبط بها عهودا
طويلة من الزمن غير أن هذا الطموح قد إصطدم بصعوبات وعوائق شديدة جدا من
طرف علماء كثيرين رأو انه لا يمكن تطبيق المنهج التجريبي على المادة الحية
وذلك لخصوصيتها فهل هذا صحيح ؟
محاولة حل الإشكالية
الموقف الأول
يرى أصحاب الإتجاه الكلاسيكي أنه لا يمكن تطبيق المنهج التجريبي على
المادة الحية و ذلك للحجج التالية: أن الجسم الحي لايتصف بالفردية,بل هو
وحدة كاملة مرتبطة لا يمكن تقسيمها دون أن يحصل خلل أو فساد في طبيعتها
يقول كوفييه :"إن سائر أجزاء الجسم الحي مرتبطة
فيما بينها فهي لا تستطيع التحرك إلا بقدر ما تتحرك كلها معا و الرغبة في
فصل الجزء عن الكل معنا نقله إلى نظام الذوات الميتة و معناه أيضا تبديل
ماهيته تبديلا تاما ", فمثلا لا نستطيع فصل عضو من الأعضاء دون أن
يفقد هذا العضو وظيفته بل الوحدة ككل تتوقف وتتعطل . و الحجة الثانية هي
تأثر الكائن الحي من أنتفاله من الوسط الطبيعي إلى الوسط الإصطناعي ففي
الحياة الطبيعية يتصرف بطريقة عادية أما عندما نضعه في الوسط الإصطناعي
المتمثل في المخبر فإننا نخضعه لتغيرات كيميائية كالتخدير مثلا . أما
الصعوبة الثالثة التي تعترض الظواهر الحية فهي صعوبة الملاحظة الداخلية
لعمل الأجزاء الدقيقة كالخلايا و الأنسجة التي تكون وحدة الكائن الحي ونحن
نعرف أنه من غير الممكن قيام علم من دون ملاحظة ومتابعة للوظائف التي
يقوم بها . و إن أردنا عزل عضو ما من أجل ملاحظته فإنه يفقد وحدته و
بالتالي يفقد طبيعته .و من جهة أخرى واجه العلماء عوائقا أخرى في تصنيف
الظواهر فرسم سلسلة الطبائع و الصفات الخاصة بنوع حيواني ليس بالأمر السهل
فمحاولة التصنيف المورفولوجي أو الفيزيولوجي محاولة تقضي على الفردية .
ذلك لأن نمط العيش و التكيف من الناحية المورفولوجية يمكن أن يبعد كثيرا
الحيوان عن أقاربه في النوع بالطفيليات فلكل كائن حي خصائصه . و أخيرا
يستخدم أصحاب هذا الموقف حجة التنبؤ و التعميم فالتنبؤ مستحيل على مستوى
الظواهر الحية. و ذلك لأن الكائن الحي ليس ثابت في الزمان و المكان بل هو
دائم التغير عكس الموجودات الجامدة . أما التعميم يطبق في الظواهر
الفيزيائية و الكيميائية الجامدة في شكل استقراء ناقص لأنه لا يخضع لمبدأ
الحتمية فأمر صعب جدا إن لم نقل مستحيل . فعندما يستخدم العلماء الفئران أو
الكلاب أو القردة لإختبار فعالية الأدوية المكتشفة ثم يحاولون تعميم
النتائج على بقية الكائنات الحية خاصة الإنسان يقعون في مخاطر لأن طبيعة
الإنسان تختلف عن طبيعة الحيوانات الأخرى بل إن الإختلاف يوجد على مستوى
بني الإنسان فمثلا بعض الناس يؤثر فيهم بعض الادويةتأثيرا سلبيا و البعض
الأخر تأثيرا إجابيا و كذلك نقل الدم من شخص إلى أخر .
المناقشة
و النقد الموجه لأصحاب هذه النظرية ما يلي :غير أن هذه الإعتراضات غير
كافية و مقنعة . لأنها تقف في وجه طموح العلماء و هي لا تني إجحافا في حق
البيولوجيا فحسب بل في حق العلم كله الذي يسعى جاهدا لمعرفة حقيقة الكائن
الحي معرفة موضوعية تخلصه من قيود الميتافيزيقا و الآراء الديثنية فقد نسي
هؤلاء أنه كان هناك إعتقاد يقول بإستحالة قيام علم الفيزياء و لكن بفضل
تقدم وسائل البحث أصبحت الفيزياء علما قائما بذاته بل صارت من العلوم
الدقيقة فليس من الغريب أن يكون هناك علم بيولوجي .
عرض النقيض و أدلته :
يرى عالم الأحياء الفرنسي "كلود برنار" أن إخضاع الظاهرة الحية للبحث
التجريبي أمر ممكن فقد بدأ الأمل في قيام علم خاص بالظواهر الطبيعية مع
نظرية التطور التي وضعها "لاماك" و "داروين" اللذان دعيا إلى وجوب فهم
الكائنات الحية عن طريق البيئة الخارجية و السلالات السابقة ثم أخذ علم
الأحياء يتقدم أكثر بالتجارب التي قام بها الطبيب الفرنسي "لويس باستور" و
أشهرها التجربة التي أقامها حول ظاهرة تعفن المادة الحية و بات من الأكيد
أن البحث التجريبي يصلح في مثل هذه الظواهر و يعرف تاريخيا إدخال التجريب
على الظاهرة الحية إلى الطبيب الفرنسي "كلود برنار" الذي ظل يردد (( لا بد لعلم البيولوجيا أن يأخذ من العلوم الفيزيائية و الكيميائية المنهج التجريبي ولكن مع الإحتفظ بحوادثه و قوانينه الخاصة )) و خاصة في ظل تطور
التقنية و أدوات الملاحظة كالمجاهر الدقيقة فالكائن الحي يحمل بين ثناياه
نفس الخصائص الفزيائية و الكيميائية التي يتألف منها الكائن الجامد يقول
"كلود برنار" : (( إن
المظاهر التي تتجلى لدى الأجسام الحية مثل المظاهر التي تتجلى لدء
الأجسام الطبيعية فهي تخضع لحتمية ضرورية تربطها بشروط كيميائية و
فيزيائية خاصة )) و
ما دام كذلك فالتجريب ممكن و الدليل على ذلك ما وصل إليه علم الطب و علم
الوراثة و يمكن أن نورد كحجة على ذلك التجربة المشهورة التي أجراها "كلود
برنار" من أجل البرهنة على إمكانية تحقيق هذا الطموح العلمي هذه التجربة
التي أقامها حول بول الأرنب حيث وظف فيها الخطوات الأتية الملاحظة العلمية
و الفرضية و التجربة و القانون وقد وصل فيها إلى حقيقة جديدة تفيد بأن
الكائن الحي يتغذى من مدخراته في حالة الصوم أو الإمتناع عن الطعام كما أكد
فيها مبدأ التعميم بعد تكرار التجربة كما أن اكتشا الوراثة المعاصرة
لعنصر adn و تطور زراعة الأعضاء وعلم الجينات و صناعة أجهزة الرقابة و
إدخال الرياضيات و استخدامها في الأبحاث بات واضحا أن تلك الصعوبات
المذكورة لم تبق مطروحة و إن كانت النتائج لا ترقى إلى مستوى نتائج علوم
الفزياء .
المناقشة
و النقد الموجه لأصحاب هذه النظرية ما يلي : لا يمكن موافقة أصحاب هذه
النظرية في أن الظواهر البيولوجية مماثلة للظواهر الفيزيائية و الكيميائية
في الطبيعة و إنما الواقع و الأبحاث العلمية تؤكد الإختلاف الموجود
بينهما فالمادة الحية تتميز بما يلي : *التعقيد و
التشابك *عدم قابلية الملاحظة و إقامة التجربة *إنها فريدة من نوعها تفوم
بالوظائف الحيوية من تغذية و إطراح و تكاثر ....إلخ *عدم قابليتها للتعميم فهذه الخصائص ترتبت عنها صعوبة تطبيق المنهج التجريبي عليها بنفس الكيفية التي تم تطبيقه في الظاهرة الجامدة .
التركيب موقف وسط)
لقد أكدت الأبحاث العلمية أن الظاهرة الحية تشترك مع
الظاهرة الجامدة في جملة من الخصائص لذلك يمكن تكييف المنهج التجريبي
طبيعتها فالظواهر البيولوجية مثلها مثل الظواهر الفيزيائية و الكيميائية
أصبحت تستعمل المنهج العلمي وما عملية الإستنساخ اليوم التي تجري في الدول
المتقدمة إلا دليلا قاطعا على ذلك ولكن مع الإحتفاظ بخصائص الكائن الحي
مثلما يقول "كلود برنار" و خاصة طبيعته و عدم تجاوز حدود العلم حتى لا يتحول البحث في علم الأحياء إلى بحث فلسفي .
الخاتمة (حل الإشكال)
و في الأخير نستنتج بأن تطبيق النهج التجريبي على
الظاهرة الحية لا يماثل تطبيقه على الظاهرة الجامدة لأن كل نوع يتميز
بخصوصية معينة .فالعلم لا يعرف حدودا و طموح العلماء هو العمل الحاسم
دائما في تطوره وتقدمه لكن مهما كان هذا الطموح فإنه لا يصل إلى الحقائق
المطلقة الكاملة.